التدبر هو علم لدني يقوم على الرشاد، ويختلف في آليته عن العلم الكسبي القائم على الذكاء والتجربة، لكنه لا يعارضه، بل يكمله ويغنيه. وعندما يلتقي هذان العلمان، يظهر أول خيط لنهضة حقيقية، غالبًا ما تولد من قلب الانهيار.

سورة الكهف ترسم هذا الطريق. ففي الآية (59) يذكر القرآن القرى التي هلكت بظلمها: «وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا». ومن قلب هذا المشهد يبدأ بزوغ أفق جديد في الآية التالية مباشرة، حين يقول موسى لفتاه: «لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا» [60]. هنا يولد العلم والتعلم مع عزيمة لا تنطفئ، عزيمة تدرك أن الأهداف الكبرى تحتاج إلى حقب من الزمن وصبر على الطريق، وأنه مهما بلغنا من العلم، فلا غنى لنا عن التكامل مع علم آخر، علم يُعطى من لدن الرحمن.

ويتجلّى ذلك في قوله تعالى: «فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا». كان التكليف لموسى عليه السلام – صاحب العلم الشرعي – أن يصبر على صاحب العلم اللدني، لتظهر أمامنا صورة فريدة للتكامل بين نوعين من المعرفة، يلتقيان لا ليُلغى أحدهما الآخر، بل ليكملا معًا بناء الرشد.

هذا اللقاء بين العلوم هو البذرة الأولى لتمكين كلمة الحق، وهو التمهيد للحق ليبسط نوره من المشرق إلى المغرب. وتظل السورة نفسها شاهدة على مراحل هذه النهضة؛ من الاستضعاف الذي بدا في أول القصة، إلى العلم الذي كشف أسرار الطريق، وصولًا إلى التمكين الذي تجلى في قصة ذي القرنين، حيث تحوّل الضعف إلى قوة والعجز إلى قدرة على البناء وإصلاح الأرض.